الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وعند التأمل تجد أن هذا الرد مدخول، والبحث فيه يطول.ومحله مسائل الفقه والأصول.ومن العلماء والمفسرين من جعل جملة {للفقراء المهاجرين} ابتدائية على حذف المبتدأ.والتقدير: ما أفاء الله على رسوله للمهاجرين الفقراء إلى آخر ما عطف عليه فتكون هذه مصارف أخرى للفيء، ومنهم من جعلها معطوفة بحذف حرف العطف على طريقة التعداد كأنه قيل: فلله وللرسول، إلى آخره، ثم قيل: {للفقراء المهاجرين}.فعلى هذين القولين ينتفي كونها قيدًا للجملة التي قبلها، وتنفتح طرائق أخرى في حمل المطلق على المقيد، والاختلاف في شروط الحمل، وهي طرائق واضحة للمتأمل، وعلى الوجه الأول يكون المعوّل.ووُصِف المهاجرون بالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم تنبيهًا على أن إعطاءهم مراعىً جبر مَا نكبوا به من ضياع الأموال والديار، ومراعىً فيه إخلاصهم الإيمان وأنهم مكرّرُون نصرَ دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فذيل بقوله: {أولئك هم الصادقون}.واسم الإِشارة لتعظيم شأنهم وللتنبيه على أن استحقاقهم وصف الصادقين لأجل ما سبق اسمَ الإِشارة مِن الصفات وهي أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم وابتغاؤهم فضلًا من الله ورضوانًا ونصرهم الله ورسوله فإن الأعمال الخالصة فيما عملت لأجله يَشهد للإِخلاص فيها ما يلحق عاملها من مشاقّ وأذى وإضرار، فيستطيع أن يخلص منها لو ترك ما عمله لأجلها أو قصر فيه.وجملة {هم الصادقون} مفيدة القصر لأجل ضمير الفصل وهو قصر ادعائي للمبالغة في وصفهم بالصدق الكامل كأنَّ صدق غيرهم ليس صدقًا في جانب صدقهم.وموقع قوله: {أولئك هم الصادقون} كموقع قوله: {وأولئك هم المفلحون} في سورة [البقرة: 5].{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}الأظهر أن {الذين} عطف على {المهاجرين} [الحشر: 8] أي والذين تبوّؤا الدار.و{الذين تبوّؤا الدار} هم الأنصار.والدّار تطلق على البلاد، وأصلُها مَوضع القبيلة من الأرض.وأطلقت على القرية قال تعالى في ذكر ثمود {فأصبحوا في دَارهم جاثمين} [الأعراف: 78]، أي في مدينتهم وهي حجر ثمود.والتعريف هنا للعهد لأن المراد بالدار: يثرب، والمعنى الذين هم أصحاب الدار.هذا توطئة لقوله: {يحبون من هاجر إليهم}.والتبوُّء: اتخاذ المباءة وهي البُقعة التي يَبوء إليها صاحبها، أي يرجع إليها بعد انتشاره في أعماله.وفي موقع قوله: {والإيمان} غموض إذ لا يصح أن يكون مفعولًا لفعل {تبوَّءوا}، فتأوله المفسرون على وجهين: أحدهما أن يجعل الكلام استعارة مكنية بتشبيه الإِيمان بالمَنْزل وجعْل إثبات التَّبَوُّءِ تخييلًا فيكون فعل تبوأوا مستعملًا في حقيقته ومجازه.وجمهور المفسرين جعلوا المعطوف عاملًا مقدرًا يدلّ عليه الكلام، تقديره: وأخلصوا الإِيمان على نحو قول الراجز الذي لا يعرف:
وقول عبد الله بن الزِّبَعْرَى: أي وممسكًا رمحًا وهو الذي درج عليه في (الكشاف).وقيل الواو للمعية.و{الإِيمانَ} مفعول معه.وعندي أن هذا أحسن الوجوه، وإن قلّ قائلوه.والجمهور يجعلون النصب على المفعول معه سماعيًا فهو عندهم قليل الاستعمال فتجنبوا تخريج آيات القرآن عليه حتى ادعى ابن هشام في (مُغني اللبيب) أنه غير واقع في القرآن بيقين.وتأول قوله تعالى: {فأَجمِعُوا أمرَكم وشركاءَكم} [يونس: 71]، ذلك لأن جمهور البصريين يشترطون أن يكون العامل في المفعول معه هو العاملَ في الاسم الذي صاحَبَه ولا يرون واو المعية ناصبة المفعول معه خلافًا للكوفيين والأخفش فإن الواو عندهم بمعنى (مع).وقال عبد القاهر: منصوب بالواو.والحق عدم التزام أن يكون المفعول معه معمولًا للفعل، ألا ترى صحة قول القائل: استوى الماء والخشبةَ.وقولهم: سرْتُ والنيلَ، وهو يفيد الثناء عليهم بأن دار الهجرة دارُهم آووا إليها المهاجرين لأنها دار مؤمنين لا يماثلها يومئذٍ غيرها.وبذلك يتضح أن متعلق {من قبلهم} فعل {تبوؤا} بمفرده، وأن المجرور المتعلق به قيدٌ فِيه دون ما ذكر بعد الواو لأن الواو ليست واو عطف فلذلك لا تكون قائمة مقام الفعل السابق لأن واو المعية في معنى ظرف فلا يعلق بها مجرور.وفي ذكر الدار (وهي المدينة) مع ذكر الإِيمان إيماء إلى فضيلة المدينة بحيث جعل تبوّءهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإِيمان ولعل هذا هو الذي عناه مالك رحمه الله فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكًا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق.فقال: إن المدينة تبوّئت بالإِيمان والهجرة وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ثم قرأ: {والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم} الآية.وجملة {يحبون من هاجر إليهم} حال من الذين تَبَوَّؤُوا الدار، وهذا ثناء عليهم بما تقرر في نفوسهم من أخوة الإِسلام إذ أحبوا المهاجرين، وشأن القبائل أن يتحرجوا من الذين يهاجرون إلى ديارهم لمضايقتهم.ومن آثار هذه المحبة ما ثبت في (الصحيح) من خبر سعد بن الربيع مع عبد الرحمان بن عوف إذ عرض سعد عليه أن يقاسمه ماله وأن يَنزل له عن إحدى زوجتيه، وقد أسكنوا المهاجرين معهم في بيوتهم ومنحوهم من نخيلهم، وحسبك الأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار.وقوله: {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} أريد بالوجدان الإِدراك العقلي، وكنى بانتفاء وجدان الحاجة عن انتفاء وجودها لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم وهذا من باب قول الشاعر: والحاجة في الأصل: اسم مَصدرِ الحَوْج وهو الاحتياج، أي الافتقار إلى شيء، وتطلق على الأمر المحتاج إليه من إطلاق المصدر على اسم المفعول، وهي هنا مجاز في المأْرب والمرادِ، وإطلاق الحاجة إلى المأرب مجاز مشهور ساوى الحقيقة كقوله تعالى: {ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم} [غافر: 80]، أي لتبلغوا في السفر عليها المأْرب الذي تسافرون لأجله، وكقوله تعالى: {إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها} [يوسف: 68] أي مأربا مُهمّا وقول النابغة: وعليه فتكون (مِن) في قوله: {مما أوتوا} ابتدائية، أي مأربًا أو رغبة ناشئة من فَيْء أُعْطِيهُ المهاجرون.والصدور مراد بها النفوس جمع الصدر وهو الباطن الذي فيه الحواس الباطنة وذلك كإطلاق القلب على ذلك.و(ما أوتوا) هو فيء بني النضير.وضمير {صدورهم} عائد إلى {الذين تَبَوَّءُوا الدار}، وضمير {أوتوا} عائد إلى {من هاجر إليهم}، لأن من هاجر جماعة من المهاجرين فروعي في ضمير معنى (مَنْ) بدون لفظها.وهذان الضميران وإن كانا ضميري غيبة وكانا مقتربَين فالسامع يرد كل ضمير إلى معاده بحسب السياق مثل (ما) في قوله تعالى: {وعمروها أكثر مما عمروها} في سورة [الروم: 9].وقول عباس بن مرداس يذكر انتصار المسلمين مع قومه بني سُليم على هَوازن:عُدنا ولولا نَحنُ أحدَق جمعهم بالمسلمين وأحرزوا ما جمَّعوا (أي أحرز جيش هوازن ما جمّعه جيش المسلمين).والمعنى: أنهم لا يخامر نفوسهم تشوف إلى أخذ شيء مما أوتيه المهاجرون من فيْء بني النضير.ويجوز وجه آخر بأن يحمل لفظ حاجة على استعماله الحقيقي اسم مصدر الاحتياج فإن الحاجة بهذا المعنى يصح وقوعها في الصدور لأنها من الوجدانيات والانفعالات.ومعنى نفي وجدان الاحتياج في صدورهم أنهم لفرط حبهم للمهاجرين صاروا لا يخامر نفوسهم أنهم مفتقرون إلى شيء مما يُؤتاه المهاجرون، أي فهم أغنياء عما يؤتاه المهاجرون فلا تستشرف نفوسهم إلى شيء مما يؤتاه المهاجرون بَلْهَ أن يتطلبوه.وتكون (مِن) في قوله تعالى: {مما أوتوا} للتعليل، أي حاجة لأجل ما أوتيه المهاجرون، أو ابتدائية، أي حاجة ناشئة عما أوتيه المهاجرون فيفيد انتفاء وجدان الحاجة في نفوسهم وانتفاء أسباب ذلك الوجدان ومناشئِه المعتادة في الناس تبعًا للمنافسة والغبطة، وقد دل انتفاء أسباب الحاجة على متعلق حاجة المحذوف إذ التقدير: ولا يجدون في نفوسهم حاجة لشيء أوتيه المهاجرون.والإيثار: ترجيح شيء على غيره بمكرمة أو منفعة.والمعنى: يُؤثرونَ على أنفسهم في ذلك اختيارًا منهم وهذا أعلى درجة مما أفاده قوله: {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} فلذلك عقب به ولم يُذكر مفعول {يُؤثِرونَ} لدلالة قوله: {مما أوتوا} عليه.ومن إيثارهم المهاجرين ما روي في (الصحيح) أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الأنصار ليقطع لهم قطائع بنخل البحرين فقالوا: لا إلا أن تقطع لإِخواننا من المهاجرين مثلها.وإما إيثار الواحد منهم على غيره منهم فما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: «أتى رجل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد.فأرسل في نسائه فلم يجد عندهنّ شيئًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألاَ رجل يُضيف هذا الليلةَ رحمه الله، فقام رجل من الأنصار (هو أبو طلحة) فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: هذا ضيف رسول الله لا تدَّخريه شيئًا، فقالت: والله ما عندي إلا قُوتُ الصِبية.قال: فإذا أراد الصبية العَشاء فنوِّميهم وتعالى فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة.فإذا دخل الضيف فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج تُري أنككِ تصلحينه فأطفئيه وأَرِيه أنَّا نأكل. فقعدوا وأكل الضيف».وذكرت قصص من هذا القبيل في التفاسير، قيل: نزلت هذه الآية في قصة أبي طلحة وقيل غير ذلك.وجملة {ولو كان بهم خصاصة} في موضع الحال.و{لو} وصلية وهي التي تدل على مجرد تعليق جوابها بشرط يفيد حالة لا يُظنّ حصول الجواب عند حصولها.والتقدير: لو كان بهم خصاصة لآثروا على أنفسهم فيُعلم أن إيثارهم في الأحوال التي دون ذلك بالأحرى دون إفادة الامتناع.وقد بينا ذلك عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به} في سورة [آل عمران: 91].والخصاصة: شدة الاحتياج.وتذكير فعل {كان} لأجل كون تأنيث الخصاصة ليس حقيقيًا، ولأنه فُصل بين {كان} واسمها بالمجرور.
|